تحديث وتعديل، خطبة بعنوان: “العنصرية وآثارها على مجتمعنا ومقدساتنا”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 19 من ربيع الأول 1439هـ الموافق 8 من ديسمبر 2017م
تحديث وتعديل، خطبة بعنوان: “العنصرية وآثارها على مجتمعنا ومقدساتنا”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 19 من ربيع الأول 1439هـ الموافق 8 من ديسمبر 2017م.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا.
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: لا عنصرية في الإسلام
العنصر الثاني: العنصرية نماذج وصور
العنصر الثالث: آثار العنصرية على الفرد والمجتمع
العنصر الرابع: خصائص وفضائل المسجد الأقصى
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: لا عنصرية في الإسلام
عباد الله: من الأمور التي نهي عنها الإسلام ( العنصرية ) ؛ والعنصريَّة معناها التَّفْرقةُ والتمييزُ في المعاملة بين الناس على أساس من الجنس، أو اللَّون، أو اللغة، أو الدِّين، أو حتى المستوى الاجتماعي والطَّبَقي، وهذه العنصريَّة متجذِّرة في البشرية منذ القِدم .
فالعنصري هو الذي يرى نفسه متميزاً على من حوله، يحق له ما لا يحق لهم، وهو معفى مما يجب عليهم، ينبغي أن يأكل وحده، وأن يسكن وحده، وأن يستمتع بالحياة وحده، وأن يشتري من الأشياء الثمينة ما يحلو له وحده، وأن يبني مجده على أنقض الآخرين، وأن يبني غناه على فقرهم، وحياته على موتهم ، وأمنه على موتهم، وعزه على ذلهم ، فهذا هو العنصري .
وأول من نادى بالعنصرية هو إبليس عليه لعنة الله تعالى حيث قال حينما أمر بالسجود لآدم: { أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } (ص:76). ولم يبتعِدِ العربُ قبل الإسلام عن هذه النعرة، بل كانت القبليَّة سائدةً، والتقسيم الطبقي حاضرًا؛ فهذا من الأَوْسِ، وذاك من الخَزْرَجِ، وهذا من السادة، وذاك من العبيد، وكانت الحروبُ والنَّزاعات تقوم بينهم لعشرات السنين لا تحطُّ أوزارَها لأسباب تافهةٍ، وعلَتْ أصواتُ الفخر لهذه العصبيَّة حتى قال قائلهم – وهو عمرو بن كلثوم في معلَّقته -:
إذا بَلَغ الرَّضِيعُ لنا فِطامًا………….. تخرُّ له الجَبابرُ ساجدِينا
ولما فتح رسول الله مكة وصعد بلال على ظهر الكعبة يؤذن قال أحد المشركين: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم الذي علا فيه عبدٌ حبشيٌ أسودٌ على ظهر الكعبة! أيّة نفسية حقيرة هذه التي تخفي في داخلها مثل هذا التصور المذموم وهذه الخسيسة الحقيرة التي نبذها الإسلام؟!! فعَنْ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:”إِنَّ أَنْسَابَكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِسِبَابٍ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ بنوا آدَمَ طَفُّ الصَّاعِ أَنْ تَمْلَؤُوهُ، لَيْسَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلا بِدِينٍ أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ، حَسْبُ امْرِئٍ أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا بَذِيئًا بَخِيلا حَلافًا”. ( أحمد والبيهقي والطبراني بسند حسن).
ونحن نعلم جميعاً أن كبار كفار قريش كانوا يأنفون من الجلوس مع الضعفاء من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ سَعْدٍ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ نَفَرٍ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا؛ فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ؛ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }(مسلم). لا تطردهم، نزلت لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم بأن يقيم بعض العبيد الذين أسلموا أو الناس الذين نزلوا في أنسابهم وأحسابهم من أجل حفنة من المشركين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يتألف قلوبهم على الحق.
أيها المسلمون: إن الإسلام جاء ليقضي على كل هذه الفوارق والطبقات وجعل الناس كلهم سواسية؛ فقد كان كبار الصحابةِ مَن لا ينتمي إلى العرب أصلًا، فهذا سلمان (الفارسي)، وصهيب (الرومي)، وبلال (الحبشي)، رضي الله عنهم أجمعين؛ فالإيمان أزال وأذاب الفوارقَ التي تقومُ على أساسٍ من الجنس أو العِرق أو اللون؛ وجعل التقوى معياراً للتفاضل بين الناس مهما كان الحسب والنسب؛ فهذا أبو لهب؟ أليس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، أليس شريفاً وحسيباً في قبيلة قريش؟! ولكن ماذا نفعه حسبه؟ إنه لم ينفعه شيئاً، وإنما أورده النار، “سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ “؛ وهذا سلمان الفارسي!! أليس فارسياً من بلاد فارس، لا يمت إلى العرب بصلة؟! ولكن نفعه إيمانه. وهذا بلال بن رباح عبد حبشي أسود سمع الرسول خشخشة نعله في الجنة.
ولذلك يقول شاعر الإسلام: لقد رفع الإسلام سلمان فارساً ………… ووضع الكفر الشريف أبا لهب
عباد الله: إن دينُنا الإسلامي الحنيفُ حارب العنصريَّة والطبقيَّة بشتَّى أنواعها وأشكالها منذ بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أعلنَها القرآن الكريم صريحةً مدوِّية أن التفاضل بين البشر لا يكون إلا بميزان التقوى فحسب؛ قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13]، والاختلاف في طبيعة الجنس البشري، وتعدد صوره وأشكاله: جعله الله آيةً من آياته في هذا الكون؛ قال سبحانه: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } [الروم: 22]، وأكَّد الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى في أقواله الشريفة، فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ؛ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ؛ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ.”. (أبوداود )؛ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا ؛ إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ ؛ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ؛ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ ؛ إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ ؛ النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ”.( أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه ). بل قد وضع النبي صلى الله عليه وسلم العنصرية تحت قدميه في خطبة الوداع؛ فعَنْ أَبِي نَضْرَةَ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: ” ألا وإنَّ كل شيء مِن أمر الجاهلية موضوعٌ تحت قدميَّ هاتَين ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ ، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ”. ( أحمد والطبراني والبيهقي وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح).
وهكذا قضى الإسلام على كل صور العنصرية والطبقية والنعرات التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي؛ وحل محلها روح المساواة والحب والألفة والمودة والرحمة .
العنصر الثاني: العنصرية نماذج وصور
أيها المسلمون: تعالوا بنا لنعرض لكم هذه والنماذج والصور للعنصرية وكيف واجهها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
العنصرية منتنة: فعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:” كنا في غَزاةٍ فكسَع رجلٌ من المهاجرينَ رجلًا من الأنصارِ، فقال الأنصارِيُّ : يا لَلأنصارِ، وقال المهاجرِيُّ : يا للمهاجرينَ، فسمِع ذاك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال : ” ما بالُ دَعوى جاهليةٍ “. قالوا : يا رسولَ اللهِ، كسَع رجلٌ من المهاجرينَ رجلًا من الأنصارِ، فقال : دَعوها فإنها مُنتِنَةٌ . ” ( متفق عليه ). فانظر كيف عبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ ” منتنة “؟!! أى أنها تفسد المجتمع كلها بنتنها .
العنصرية من عادات الجاهلية: فقد روي أن أَبَا ذَرٍّ سَابَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ؛ فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ؛ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ؛ إِخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ؛ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ؛ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ؛ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ”. (متفق عليه).
وقد ذكر ابن حجر والنووي في شرحهما أن أبا ذر عير بلالاً الحبشياً بأمه؛ وأنه ابن السوداء؛ كما نعلم سواد بشرة أهل الحبشة ومعظم أهل دول أفريقيا الوسطى والجنوبية؛ لذلك عاتبه صلى الله عليه وسلم على ذلك وبين أن ذلك من عادات الجاهلية الممقوتة المنتنة .
الرسول صلى الله عليه وسلم يَحذرُ العنصريةَ على طريق الهجرة: لما وصل الرسول – صلى الله عليه وسلم – المدينة في هجرته؛ وقف الأنصار داراً بعد دار ، عشيرةً بعد عشيرة ، يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم فكان يقول لهم : دعوها ، أيّ ناقته ، فإنها مأمورة ، ولو نزل بأيّ مكان ، بأيّ بيت ، بأيّ عشيرة ، بأيّ قوم ميزهم بلا مرجح ، وجعل الطرف الآخر أصغر من هؤلاء الذين نزل عندهم ؛ حتى بركت عند المربد ، وفي ذلك احترام للجميع وإصرار على عدم التمييز بينهم ، وإذا كان نزوله في دار أبي أيوب الأنصاري فليس في ذلك إحراج أو تمييز أو عنصرية، لأن داره أقرب دار لمبرك الناقة.
العنصرية في صلاة الجنازة: فنحن نعلم – كما في واقعنا المعاصر – أن المتوفى لو كان شريفاً ذا وجاهة في قومه فإن جنازته تكون مهيبة ومشهودة ؛ أما إن كان ضعيفاً وضيعاً فلا يقوم على جنازته إلا عدد لا يذكر ؛ وهذا ما حدث مع المرأة التي كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وحقَّر الصحابة شأنها ؛ وظنوا أنها أقلّ من أن يخبروا بموتها رسول الله ، فلما تفقدها الرسول – صلى عليه وسلم – قالوا : ماتت يا رسول الله ، قال : هلا أعلمتموني ؟ وقام إلى قبرها وصلى عليها صلاة الجنازة استثناءً من أحكام صلاة الجنازة ؛ ليذيب الفوارق بين طبقات المجتمع؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَسَأَلَ عَنْهَا؟ فَقَالُوا: مَاتَت. قَالَ: أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟! قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا؛ فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرهَا ؛ فَدَلُّوهُ ؛ فَصَلَّى عَلَيْهَا . ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ .” ( متفق عليه ).
بسبب عنصريته خسر دينه ودنياه: كذلك يعطينا التاريخُ الإسلامي نماذجَ رائعةً تُظهِر عظمةَ الإسلام ومساواته بين أتباعه، دون التفرقة أو العنصرية أو التحزُّب والميلِ إلى شخصٍ لدينِه أو لمكانتِه في مجتمعه؛ ” فقد كان جَبَلَةُ بنُ الأيهم آخرَ أمراء بني غسَّان، وكان حديثَ عهدٍ بالإسلام، وجاء مكة ليَحجَّ أو يعتمرَ، وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وَطِئ إزارَه رجلٌ من بني فَزَارةَ، وكان رجلاً وضعياً فقير الحال؛ فغضب الأميرُ الغسَّاني لذلك، فلطَمه لطمةً قاسيةً هَشَمت أنفَه، فأسرع الفزاريُّ إلى أمير المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضى الله عنه يشكو إليه ما حلَّ به، فأرسل الفاروق إلى جَبَلة يدعوه إليه، ثم سأله فأقرَّ بما حدث، فقال له عمر: ماذا دعاك يا جَبَلة لأَنْ تظلمَ أخاك هذا، فتهشَم أنفَه؟ فأجاب بأنه قد ترفَّق كثيرًا بهذا البدوي، وأنه لولا حرمةُ البيت الحرام لقَتَلَه، فقال له عمر: لقد أقرَرْتَ، فإما أن تُرضِيَ الرجلَ، وإما أن أقتصَّ له منك.
وزادَت دهشةُ جَبَلة بن الأيهم لكل هذا الذي يجري، وقال: وكيف ذلك وهو سُوقَةٌ وأنا ملِك؟! فقال عمر: إن الإسلام قد سوَّى بينكما، فقال الأمير الغسَّاني: لقد ظَنَنْتُ يا أميرَ المؤمنين أن أكونَ في الإسلام أعزَّ مني في الجاهلية! فقال الفاروق: دَعْ عنك هذا، فإنك إن لم ترضِ الرجلَ اقتصَصْتُ له منك، فقال جَبَلة: إذًا أتنصَّر! فقال عمر: إذا تنصَّرْتَ ضربتُ عنقَك؛ لأنك أسلمت، فإن ارتدَدْتَ قتلتُك.
ولم يُطِقْ جَبَلة أن يُقتَصَّ منه، فقال: دعني أفكر ؛ فما كان منه إلا أن أخَذَ قرارَ الفرار والتنصُّر؛ فخسر دينَه ودنياه “. ( المختصر في أخبار البشر 1/111 , وإعلام الناس بما وقع للبرامكة 1/ 3 ).
التقوى ميزان التفاضل لا الشرف والنسب: يحكى أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني هاشمي، من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أنه كان فاسقاً ظاهر الفسق، وكان هناك مولى أسود تقدم عليه في العلم والعمل، فأكب الناس على تعظيمه، فاتفق أن خرج يوماً من بيته يقصد المسجد، هذا الرجل الأسود العالم، فاتبعه خلق كثير يتعلمون منه، فلقيه الشريف وهو سكران، فكان الناس يطردون هذا الشريف السكران عن طريق ذلك الأسود العالم، فغلبهم هذا الرجل وتعلق بأطراف الشيخ وقال: يا أسود الحوافر والمشافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابن رسول الله أُذل وأنت تُجل، وأُهان وأنت تُعان، فهمَّ الناس بضربه، فقال الشيخ: لا تفعلوا هذا محتمل منه لجده ومعفوٌ عنه وإن خرج عن حده، ولكن أيها الشريف: بيضت باطني وسودت باطنك، فرؤي بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت، وسواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحت، وأخذتُ سيرة أبيك، وأخذتَ سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك، وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك.
فهذا العبد الأسود رفعه علمه وتقواه ؛ وذاك الشريف لم ينفعه حسبه ولا نسبه ؛ ورحم الله الإمام على حين يقول:
الناسُ مِن جِهَةِ التِمثالِ أكفاءُ……………….. أَبوهُمُ آدَمُ وَالأُمُ حَوّاءُ
نَفسٌ كَنَفسٍ وَأَرواحٌ مُشاكَلَةٌ………………..وَأَعظُمٍ خُلِقَت فيها وَأَعضاءُ
وَإِنَّما أُمَّهاتُ الناسِ أَوعِيَةٌ…………………مُستَودِعاتٌ وَلِلأَحسابِ آباءُ
فَإِن يَكُن لَهُمُ مِن أَصلِهِم شَرَفٌ……………….يُفاخِرونَ بِهِ فَالطينُ وَالماءُ
ما الفَضلُ إِلا لِأَهلِ العِلمِ إِنَّهُمُ…………….عَلى الهُدى لِمَنِ اِستَهدى أَدِلّاءُ
وَقَدرُ كُلِّ اِمرِئٍ ما كاَن يُحسِنُهُ………………وَلِلرِجالِ عَلى الأَفعالِ أسماءُ
وَضِدُّ كُلِّ اِمرِئٍ ما كانَ يَجهَلُهُ……………… وَالجاهِلونَ لِأَهلِ العِلمِ أَعداءُ
فَفُز بِعِلمٍ وَلا تَــــطلُب بِهِ بَدَلاً……………….فَالناسُ مَــــوتى وَأهُلُ العِلمِ أَحياءُ
العنصر الثالث: آثار العنصرية على الفرد والمجتمع
عباد الله: للعنصرية والعصبية والقبلية آثار وأضرار جسيمة وعواقب وخيمة على الفرد والمجتمع؛ فالشخص الذي يتعصب لقبيلة أو حزب أو جماعة أو فئة أو عائلة أو …..إلخ لا شك أنه يطلق ولاءه ونصرته وهمته وحياته لمن يتعصب له ؛ ثم يطلق – عكس ذلك – عداءه وبغضه وكرهه للطرف الآخر ؛ ولا شك أن ذلك يولد العنف والاقتتال والفوضى ؛ فالعنف لا يولد إلا العنف؛ فإذا كان الفرد يتعامل – مع من يخالف فكره أو اعتقاده أو حزبه أو قبيلته – بعنف؛ فإن الطرف الآخر يرد عليه بعنف أقوى منه؛ يقول إسحاق نيوتن: ” كل فعل له رد فعل يساويه في القوة ويعارضه في الاتجاه ” . فلذلك كل إنسان تحاوره يوم ترفع صوتك يرفع صوته، ويوم تحترمه يحترمك، ويوم تكنيه يكنيك، فكذلك كل إنسان تتعامل معه بالعنف والقوة والقهر يبادلك الطرف الآخر نفس الشعور . يقول أحدهم وهو يحاور خصمه:
أكنيه حين أناديه لأكرمه…..كذلك أدبت حتى صار من أدبي
ولا ألقبه السوءة اللقب …..أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
ولا يخفى علينا ما يحدث في واقعنا المعاصر من الاعتداء وإزهاق الأرواح وتخريب الديار بسبب العصبية والقبلية والثأر بين العائلات والقبائل ؛ وهؤلاء ينتصرون لعصبيتهم وقبليتهم لا لنصرة الدين أو الدولة؛ وهذه هي الجاهلية العمياء كما جاء في الحديث ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، ثُمَّ مَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ، وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، لَا يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي بِذِي عَهْدِهَا، فَلَيْسَ مِنِّي» ( مسلم ) “قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ يُقَاتِلُ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ تَعَصُّبًا كَقِتَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يَعْرِفُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَإِنَّمَا يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ لَا لِنُصْرَةِ الدِّينِ، وَالْعَصَبِيَّةُ إِعَانَةُ قَوْمِهِ عَلَى الظُّلْمِ .” ( شرح النووي).
فعلينا أيها المسلمون : أن نتجرد من كل هذه النعرات والعصبيات التي تنخر في عظام المجتمع وتفكك أوصاله ؛ ونسعى جاهدين إلى الصلاح والإصلاح بين أطراف وأطياف المجتمع ؛ حتى نجتث هذه الفتن والنعرات والعصبية من جذورها؛ وليكن لنا القدوة في نبينا صلى الله عليه وسلم في سعيه إلى الصلح بين أفراد وطوائف المجتمع؛ فعن أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ؛ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبَ حِمَارًا ؛ فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ ؛ فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ َقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِك.َ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ مِنْهُم:ْ وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْك.َ فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَشَتَمَه ،ُ فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأيْدِي وَالنِّعَالِ فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ ” وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا …..الآية” [ البخاري ]؛ فما كان من أمره صلى الله عليه وسلم إلا أنه سعى في الإصلاح بين الطائفتين؛ قال ابن بطال:” الإصلاح بين الناس واجب على الأئمة وعلى من ولاه الله أمور المسلمين.” ؛ وقال ابن حجر:” وفي الحديث: بيان ما كان عليه النبي من الصفح والحلم والصبر على الأذى في الله والدعاء إلى الله وتأليف القلوب على ذلك .”
فعلينا عباد الله أن نتحرّر من الفرقة والتشاحن والتباغض والتقاتل والتحزب والعصبية والقبلية بالصلح والمصافحة والمصالحة .. والتنازل والمحبة .. والأخوة حتى تعود المياه إلى مجاريها ..يجب علينا أن نكون صَفًّا واحدًا مُتلاحِمًا كالبنيان المرصوص مع ولاة أمرنا وعلمائنا في استتباب الأمن والقضاء على هذه الظواهر المفزعة والأحداث المفجعة واستئصال شأفتها، يجب أن نكون جميعًا يدًا واحدة عَيْنًا ساهرةً مع رجال الأمن للحفاظ على ديننا وبلادنا وأمننا، ومنهجُنا منهجُ الوسطية والاعتدال، ونصيحتي للشباب وفلذات الأكباد ألا ينخدعوا بالأفكار الهدامة، والمناهج الضالة، وألا ينساقوا وراء حرب الشبهات التي يروجها مَن قَلَّ فَهْمُه، وضل سَعْيُه.
أيها المسلمون: كثير منا يفتخر بنسبه وحسبه ويترفع على الناس بأنه فلان بن فلان؛ ويعامل الناس بأنفة وعلو واستكبار وكأنه خلق من مادة غير التي خلق منها الناس جميعاً؛ وليعلم هذا المفتخر أنه يسعى بعنصريته وقبليته وحسبه ونسبه إلى النار وبئس القرار كما أخبرنا بذلك النبي المختار؛ فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بْنُ فُلاَنٍ ، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ حَتَّى عَدَّ تِسْعَةً ، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ ؟ قَالَ : أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ، ابْنُ الْإِسْلَامِ ، قَالَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّ هَذَيْنِ الْمُنْتَسِبَيْنِ ، أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْمُنْتَمِي أَوْ الْمُنْتَسِبُ إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا الْمُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَيْنِ فِي الْجَنَّةِ ، فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الْجَنَّةِ ” . ( أحمد والبيهقي بسند صحيح ).
أحبتي في الله: إننا نحتاج إلى تربية إسلامية تزيل هذا النتن من نفوسنا، هذا النتن الذي وصفه عليه السلام بأنه نتن؛ ليحل محله إخاءٌ إسلاميٌ صحيحٌ قائمٌ على الكتاب والسنة، يوحد صفوف المسلمين، ويوجه طاقاتهم إلى العمل للإسلام .
فلا بد أن تكون الرابطة التي تربط مجموعات المسلمين اليوم سواء كانوا جيراناً أو موظفين في شركة، أو أناس في حي أو طلبة في مدرسة يجب أن تربطهم رابطة الدين، ورابطة الإسلام فتجد مجموعة من الطلبة فيهم جميع الأصناف والأشكال، مجموعة من الموظفين في مكان واحد لا يجتمعوا؛ لأن هذا من قبيلة فلان، من قبيلتي فأنا أجتمع معه وأزوره، وأكلمه، وأنصره وأتعاون معه، وذلك لأنه من قبيلة أخرى منافسة أو ليس له قبيلة فأنا أهجره وأتركه، ولا أنصره ولا أقيم معه علاقات، وهذا لأنه من أبناء بلدي فأنا أوفر له التسهيلات وأنصره، ولكن إذا رأيت الحق مع غيره ممن جاء من بلاد أخرى فأنا أكون ضده، أيها الإخوة ليست هذه أخلاق الإسلام !!
فعلى المؤمنين مهما اختلفتْ مذاهبهم، ومهما تعدَّدت مشاربهم، ومهما تنوَّعتْ آراؤهم وتباينتْ أفكارهم؛ ومهما كان لونهم أو عنصرهم أو لغتهم أو قبيلتهم أو عائلتهم أن يتراحَموا فيما بينهم، وأن تغشاهم سحب المحبة، وأن يرتشفوا معًا فرات المودة والتعاطف، وأن يستظلوا جميعًا بظلال الإخاء والوداد، فهم – كما شبَّههم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جسدٌ واحدٌ، وذلك عندما قال: “مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَل الجسد، إذا اشتكى منه عضو: تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (البخاري ومسلم).
العنصر الرابع: خصائص وفضائل المسجد الأقصى
عباد الله: إننا في الوقت الذي نعمل فيه على نشـر قيـم السـلام للعالم كله ، ونؤكد على رفضنا لكل ألوان التطرف والإرهاب، ونحث على نبذ كل ألوان العنف والكراهية والعنصرية ، فإننا نؤكد أيضا وبنفس القوة والحسم أن اتخاذ أي خطوات تجاه انتقاص حقوق أمتنا وسيادتها في القدس مسجدًا أو مدينة إنما يغذي العنصرية والتطرف والإرهاب ، ويولد كراهية وأحقادًا ربما لا يمحوها الزمن تجاه كل القوى الداعمة للكيان الصهيوني في محاولة بسط سيادته على القدس والتمدد في أراضيه ، كما يعمق الكراهية لهذا الكيان الغاصب ، ويدفع إلى جنوح نحو التطرف لا يمكن أن يقف خطره عند حدود منطقتنا ؛ ومن ظن أن أمتنا يمكن أن تفرط في أرضها أو مقدساتها فهو واهم ، فهذه الأمة العظيمة قد تمرض ولكنها لا ولن تموت بإذن الله تعالى والقدس والمسجد الأقصى في أعماق وجدانها .
أيها المسلمون: لقد بشرنا النبي المصطفى – صلى الله عليه وسلم وهو على قيد الحياة – بفتح بيت المقدس؛ قبل أن يُفتَح، وتلك من أعلام النبوة؛ فعن عوف بن مالِك رَضِي الله عنْهُ قال: “أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ: «اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ: مَوْتِي؛ ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ؛ ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا؛ ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنْ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ؛ ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا» .(البُخاري).
عباد الله: إن المسجد الأقصى قد خص في الكتاب والسنة بخصائص عديدة وفضائل جمة تدل على رفيع مكانته وعظيم قدره:
منها: أن أرضه أرض مباركة بنص القرآن الكريم ؛ وذلك في أكثر من موضع؛ قال تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الإسراء: 1) ، وقال: { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ }. ( الأنبياء: 71)، وقال: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا }. ( الأنبياء: 81).، وقال: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}. (سبأ: 18) ، قال ابن عباس: القرى التي باركنا فيها هي بيت المقدس. وقد قيل : لو لم تكن لهذا المسجد إلا هذه الفضيلة لكانت كافية. والبركة هنا حسية ومعنوية لما فيها من ثمار وخيرات، ولما خصت به من مكانة، ولكونها مقر الأنبياء ومهبط الملائكة الأطهار.
ومنها: دعوة موسى عَليه السلام بالموت فيها: فكان من تعظيم موسى عليه السلام للأرض المُقدسة وبيت المقدس أن سأل الله تبارك وتعالى عند الموت أن يُدنيه منها. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : ” أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ ، فَفَقَأَ عَيْنَهُ ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ ، فَقَالَ : أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ ، قَالَ ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ : أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ ، لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ ، تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ ” .( البخاري).
ومنها: أنه أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال: فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى”. [البخاري ومسلم].
ومنها: أنه ثاني مسجد وضع في الأرض: فعن أبي ذر رضي الله عنه قال : ” قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قَالَ قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ، قُلْتُ : كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ سَنَةً ، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ “. [البخاري ومسلم].
ومنها: أنه قبلة المسلمين الأولى قبل نسخ القبلة وتحويلها إلى الكعبة: فعن البراء رضي الله عنه قال : ” صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ – أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ – شَهْرًا ثُمَّ صَرَفَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ”. [البخاري ومسلم].
ومنها: أن أرضه هي أرض المحشر والمنشر : فعَنْ عَنْ مَيْمُونَةَ ، مَوْلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ , قَالَتْ : ” قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ , قَالَ : أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ , ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ ، فَإِنَّ صَلاَةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ , قُلْتُ : أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : فَتُهْدِي لَهُ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ “. [أحمد وأبو داود وابن ماجة بسند صحيح].
ومنها: أنه مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه عُرج به إلى السماء: ” فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ” أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ ، طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ ، وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ ، قَالَ : فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، قَالَ : فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ ، قَالَ : ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجْتُ ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ”. [مسلم].
ومنها: أن الصلاة فيه تضاعف: فعن أبي ذر رضي الله عنه قال :” تَذَاكَرْنَا وَنَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى ، وَلَيُوشِكَنَّ أَنْ لَا يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِثْلُ شَطَنِ فَرَسِهِ مِنَ الْأَرْضِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا – أَوْ قَالَ: خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا – ” [الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي ] ؛ وهذا علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ، حيث بيَّن ما سيؤول إليه المسجد الأقصى مع تعلُّق قلوب المسلمين به؛ وأن مؤامرات الأعداء على المسجد الأقصى ستزداد ، حتى إن المؤمن ليتمنى أن يكون له موضع صغير يطلُّ منه على المسجد الأقصى ويكون ذلك أحبَّ إليه من الدنيا وما فيها .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ قَالَ : لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، سَأَلَ اللَّهَ ثَلاَثًا : حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ ، وَمُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ، وَأَلاَّ يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ فِيهِ ، إِلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ , فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ : أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ. [النسائي وابن ماجة والحاكم وصححه]. وقد سبق حديث ميمونة:” فَإِنَّ صَلاَةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ “.
أحبتي في الله: إن أرض بيت المقدس أرض إسلامية صرفة، ليست ملكًا لحاكم ولا لشعب، وإنما هي ملك للإسلام والمسلمين في كل مكان، وهذا يبيِّن واجبنا نحوها ونحو أهلها والمقدسات التي على أرضها، فعن مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” لا تَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ “. (البخاري). وفي رواية: ” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: “بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”. وكل البلاد الإسلامية التي تحيط بها من أكناف بيت المقدس.
ونؤكد أن الدولة المصرية أمام تحد الوجود ، ولا سبيل أمامنا سوى أن نكون على قلب رجل واحد في حماية الدولة المصرية وقضاياها المصيرية وفي مقدمتها القدس الشريف ، وهو ما يتطلب منا أن نكون على قلب رجل واحد في مواجهة الأخطار التي تهددنا جميعًا ، وأن نتناسى أي خلافات سياسية أو حزبية ، فهذا وقت الاصطفاف لا الفرقة ؛ لأن الفرقة شر، والخلاف هزيمة وضعف، قال الله جل وعلا:{ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }.[الأنفال:46] أي: تضيع قوتكم. واليهود ما تلاعبوا بالأمة، وضربوا الأمة بالنعال على أم رأسها إلا يوم أن علم اليهود يقيناً أن الأمة مبعثرة متشرذمة، فالأمة قد تمزقت إلى دويلات، بل وتفتت الدويلات هي الأخرى إلى دويلات!!!
فعلى الأمة أن توحد الصف، وأن تنبذ الفرقة والخلاف، وأن تحقق معنى الأخوة، كما قال عز وجل: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }.[الحجرات:10].
فينبغي أن ترفض الأمة هذه النعرات، وأن تسقط هذه الرايات، وأن تعلي راية الإسلام وراية الأخوة والأمن والسلام.
نسأل الله أن يوحد كلمتنا ؛ ويجمع شملنا ؛ ويؤلف بين قلوبنا ؛ وأن يحرر المسجد الأقصى من كل معتدٍ ومتربصٍ به ؛ اللهم آمين ؛؛؛
الدعاء،،،،،،، وأقم الصلاة،،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي